عائدون من الجحيم.. معتقلون سابقون يروون لـ«جسور بوست» معاناتهم في سجون ميليشيا الحوثي

عائدون من الجحيم.. معتقلون سابقون يروون لـ«جسور بوست» معاناتهم في سجون ميليشيا الحوثي

في اليمن يوجد كثير من الزوايا المظلمة خلف السجون، وبيوت طُرد منها أهلها تحت تهديد السلاح، وقصص لم تُكتب جميعها في وسائل الإعلام ولم تنقلها مواقع التواصل الاجتماعي، وتفاصيل لا يعرفها سوى أصحابها، ومنها قصة الشيخ عبدالهادي وغيره من المعتقلين.

الشيخ عبد الهادي الشامي، من قبيلة أرحب في مديرية أرحب بمحافظة صنعاء، كان مثالًا للمقاومة والصمود أمام قوى الظلم، تعرض للاعتقال في عام 2015 على يد ميليشيا الحوثي، التي داهمت منزله بشكل وحشي، نهبت ممتلكاته، ما أثر سلبًا في أسرته بأكملها؛ إذ إن والده توفي إثر هذه الحادثة المأساوية، في حين أصيبت والدته بجلطة، فيما أصيب هو نفسه بمرض السكري نتيجة للضغوط النفسية والجسدية التي تعرض لها.

قصة الشيخ عبدالهادي واحدة من مئات المآسي التي تعرض لها اليمنيون في ظل سيطرة ميليشيا الحوثي على صنعاء وعدد من المحافظات اليمنية، فمنذ سيطرت الميليشيا على العاصمة صنعاء، ارتفعت وتيرة الانتهاكات الحقوقية لتطول الآلاف من المدنيين، بين مختطف ومختفٍ قسريًا، وبين من ابتُز ماديًا أو نُفي قسرًا من وطنه.

في السطور المقبلة نسرد شهادات موجعة من معتقلين سابقين، لرصد ما جرى خلف الأسوار، وما تبقى في القلوب من أثر الظلم، محاولين توجيه الضوء على مأساة مستمرة، لا تزال فصولها تُكتب كل يوم بصمت موجع.

خسائر على كل المستويات 

يروي الشيخ عبدالهادي قصة اعتقاله والظلم الذي تعرض له هو وأسرته، قائلًا: "بعد وفاة والدي بأربعة أشهر، قامت الميليشيات باختطافي، ما أضر بصحتي ضررًا بالغًا، حيث تعرضت للتعذيب الجسدي، إذ كان يتم استجوابي تحت التهديد والضرب، والتعليق بالسلاسل في السقف حتى أغيب عن الوعي وأنا مريض بالسكري، بجانب سوء الأحوال المعيشية داخل السجن والتجويع وقلة الطعام، لمدة سنتين، لم يُثبت علي أي من التهم الموجهة إلي.

وقال في تصريحات لـ"جسور بوست"، إن الأضرار لم تقف عنده فقط بل طالت أسرته -اجتماعيًا واقتصاديا- فعند اعتقاله فجرًا رُوِّع الأطفال والنساء، ونُهبت الممتلكات التي قُدرت بملايين الريالات، ومرضت والدته حزنًا عليه، ولم يُسمح لأهله بزيارته سوى دقائق معدودات الأولى جاءت له والدته من المستشفى على سيارة طريحة الفراش بأنبوبة الأكسجين.

وختم عبدالهادي حديثه، قائلًا: "نُقلت إلى عدة سجون، وكل سجن كان يمثل مرحلة جديدة من العذاب النفسي والجسدي، كنت أعاني سوء التغذية، وتقييد يدي وعيني طول الوقت، وأصبحت حالتي الصحية تتدهور تدريجيًا بسبب الإهمال الطبي، كما تعرض للابتزاز المالي من قبل الميليشيات، وتم إجبار أسرتي على دفع مبالغ ضخمة من أجل الإفراج عني، دفعت ضريبة وطنيتي أنا وأسرتي، وبالرغم من ذلك كنت أسجل تجاربي في السجن باستخدام حجارة على جدران الزنازين.

أصوات تحت القيد

يروي الصحفي حمزة الجبيحي تفاصيل اعتقاله من قبل ميليشيا الحوثي، قائلًا: "اعتُقلت في 31 أغسطس 2016 في صنعاء، على يد ميليشيا الحوثي، بسبب عملي الصحفي وكتابتي مقالات تكشف ممارسات الحوثيين، ظللت رهن الاعتقال لمدة 5 سنوات و3 أشهر، إلى أن تم الإفراج عني ضمن صفقة تبادل أسرى مع الحكومة الشرعية، بتاريخ 29 سبتمبر 2021، في محافظة تعز".

وتابع: عدّوا كتابتي جريمة، واتهموني بأنني "عميل للعدوان"، وهي التهمة الجاهزة التي يطلقونها على كل من يخالفهم أو ينتقدهم.

الجبيحي تعرض لتعذيب جسدي ونفسي وصفه بـ"الممنهج والموجع"، قائلًا: تعرضت للضرب بالأيدي، والركل و الجلد بالكابلات، الصعق الكهربائي، والتعليق في السقف لفترات طويلة، ما سبب لي مشكلات صحية مزمنة، في المفاصل والعمود الفقري، أما نفسيًا، فقد مارسوا ضغوطًا شديدة بإرسال أخبار كاذبة عن وفاة زوجتي أو مرض أبي، لتحطيمي نفسيًا.

وتابع: في البداية، أخفوني قسرًا لأيام، ولم يُعلن عن مكاني إلا بعد حملات إعلامية بسبب اختطافي،  وبعد سنتين من الاعتقال، أُحلت إلى المحكمة في مخالفة صريحة للدستور، وخضعت لسبع جلسات محاكمة، ثم حُجزت القضية للنطق بالحكم، لكن أُفرج عني قبل الجلسة في إطار صفقة تبادل عُرقلت كثيرًا بسببهم، وظللت خمس سنوات سجينًا، وبعد ذلك أُفرج عني".

السجن ظلمًا لسنوات

ويروي مشتاق الفقيه لـ"جسور بوست"، تفاصيل ما عاشه من معاملة قاسية: جوع، وضغوط نفسية شديدة، بالإضافة إلى مشاهدات مروعة حول التعذيب والانتهاكات التي تعرض لها آخرون في سجن الحوثيين، قائلًا: "اعتُقلت يوم السبت 26 أبريل 2016، دون أن يتم إخباري بأي تهمة". 

وتابع: كنت في منزلي بمنطقة الحوبان في تعز عندما اقتحمت قوة من ميليشيا الحوثي منزلي وأخذوني إلى معتقل الصالح،هذا المعتقل كان في السابق مدينة سكنية بناها الرئيس الراحل علي عبد الله صالح، ولكنها تحولت إلى سجن سيئ السمعة، يكتظ بالمعتقلين من مختلف الفئات.

وقال: داخل هذا السجن، تم احتُجزت في ظروف مأساوية. كانت زنازينه مكتظة، ولا يوجد أدنى مقومات الحياة الإنسانية، لم يكن هناك فراش أو طعام أو حتى مكان مناسب للنوم ليلة وصولي، كنت مجبرًا على النوم بين سجينين كانا يعانيان اضطرابات عقلية، ما جعلني أعيش ليلة من الرعب والقلق.

وقال إن عمليات التحقيق كانت أيضًا قاسية وغير منطقية؛ إذ لم تُوجَّه أي تهمة إليّ بشكل رسمي، ولكنهم أصروا على التحقيق معي بشكل مستمر، محاولين الضغط عليّ للاعتراف بشيء لم أفعله، كنت أطالبهم بأن يوضحوا لي التهمة، لكنهم لم يقدموا أي إجابة شافية، كانت أسئلتهم تدور حول أماكن عملي وأرقام هواتفي، لكنني كنت أصر على أنني لا أملك أي علاقة بأي طرف مسلح، سواء كان الحوثي أو غيره.

وقال مشتاق: "الآلام الجسدية كانت أيضًا جزءًا من معاناتي، حيث وُضعنا في زنازين ضيقة وغير صحية، وكان هناك العديد من السجناء الذين تعرضوا للتعذيب الجسدي الوحشي، شاهدت سجناء عدة ضُربوا بالهراوات، وصُعقوا بالكهرباء، وأيضًا رأيت سجينًا تعرض للضرب المبرح لدرجة أنه أصبح يعاني صدمة نفسية شديدة.

الأرقام لا تكذب

في تقريرها عن الانتهاكات الحقوقية في اليمن لعام 2024، أوضحت منظمة سام لحقوق الإنسان أن جماعة الحوثي تتحمل مسؤولية 3,014 انتهاكًا، أي ما يعادل 86% من إجمالي الانتهاكات المرصودة، تليها التشكيلات المسلحة الخارجة عن الدولة بـ135 انتهاكًا، ثم الحكومة الشرعية بـ109 انتهاكات، ما يعكس خطورة الحالة الحقوقية في البلاد.

ولفتت إلى أن الانتهاكات لم تقتصر على الأضرار الجسدية فقط، بل طالت الحريات الشخصية والسياسية وحرية التعبير، إذ وثقت 66 محاكمة سياسية، و183 اعتداءً على الحريات الشخصية، بالإضافة إلى قمع الفعاليات الطائفية ومصادرة الممتلكات العامة والخاصة، التي وصلت إلى 567 انتهاكًا في هذا الجانب وحده.

وبينت المنظمة أن عام 2024 شهد ممارسات ممنهجة للقتل خارج نطاق القانون، حيث قُتل 151 شخصًا بطلق ناري، و39 بلغم أرضي، و18 تحت التعذيب، و10 بالقصف، و10 انتحروا نتيجة ظروف معيشية صعبة. أما فيما يخص الأطفال، فقد قُتل منهم 57 وأُصيب 58، واعتُقل تعسفيًا 67، فيما جُنِّد 169 طفلًا قسرًا، وتعرض 5 أطفال لاعتداءات جنسية، وسُجلت حالة زواج واحدة لقاصر.

وقال المحامي توفيق الحميدي، رئيس منظمة سام: "أظهرت البيانات التي قمنا برصدها خلال الفترة الماضية أن ميليشيا الحوثي تصدرت قائمة مرتكبي الانتهاكات، حيث بلغ عدد الانتهاكات المنسوبة لها 3014 حالة، مقارنة بانتهاكات ارتكبتها أطراف أخرى تشمل الحكومة الشرعية، التشكيلات المسلحة، تنظيم القاعدة، وحالات الانفلات الأمني في بعض المناطق، وتستمر جماعة الحوثي بشكل ممنهج في ارتكاب انتهاكات جسيمة، وعلى رأسها الاعتقالات التعسفية، التي طالت موظفين يعملون في منظمات دولية وسفارات أجنبية، بالإضافة إلى نشطاء سياسيين وحقوقيين".

وتابع: يوضح التقرير بالأرقام والرسوم البيانية، نسب الانتهاكات التي طالت فئات بعينها، مثل الأطفال والنساء، وذلك في كل نوع من الانتهاكات، فعلى سبيل المثال، في حالات القتل، تم توثيق 71 حالة قتل لأطفال نتيجة لأعمال العنف، في حين قُتل 25 امرأةً في ظروف مماثلة،  أما عدد الرجال المدنيين الذين قُتلوا، فقد بلغ 295 -قُتلوا أيضًا خلال الفترة المشمولة بالتقرير- وينطبق الأمر ذاته على الانتهاكات الأخرى مثل الإصابات والاعتقالات التعسفية، حيث حُلِّلت البيانات بحسب النوع الاجتماعي والفئة العمرية، ما يُظهر بوضوح الفئات الأكثر استهدافًا.

ويرى الحميدي أنه في الوقت الراهن، تعاني مؤسسات إنفاذ القانون في اليمن من ضعف وانقسام حادَّين نتيجة الصراع، حيث توجد محكمتان علييان، ووزارتا عدل، ومعهدان للقضاء في مناطق السيطرة المختلفة، وهو ما أثر سلبًا في قدرة المنظومة القضائية على أداء دورها في المساءلة والمحاسبة، ورغم هذا الوضع، تبرز اللجنة الوطنية للتحقيق في ادعاءات انتهاكات حقوق الإنسان كونها جهة محلية وحيدة تبذل جهدًا مستقلًا وملحوظًا في هذا المجال، رغم أنها مقاطَعة من قبل ميليشيا الحوثي.

وعلى المستوى الدولي، قال إن ثمة آليات قائمة، الآليات التعاقدية وغير التعاقدية للأمم المتحدة -على سبيل المثال- ومنها المقررون الخاصون والمعنيون بملفات محددة كالإخفاء القسري، والتعذيب، أو العنف ضد النساء، بالإضافة الي فريق الخبراء البارزين التابع لمجلس حقوق الإنسان، والذي عمل من 2017 حتى 2021، وأصدر تقارير مهمة، لكنه توقف عن العمل بسبب عدم التمديد له نتيجة ضغوط سياسية.

وقال إن هناك لجنة العقوبات التي لا تزال مستمرة في الرصد منذ عام 2013، وتُصدر تقارير سنوية ترصد فيها انتهاكات جسيمة وعمليات إعاقة للمساءلة، وأيضًا فريق الخبراء التابع لمجلس الأمن، وبسبب هذا التدهور المؤسسي داخليًا، وغياب الإرادة السياسية دوليًا، تعززت للأسف سياسة الإفلات من العقاب، الأمر الذي يجعل مسألة المحاسبة تتطلب مقاربة أكثر شمولًا تشمل إصلاح المؤسسات، ودعم الآليات الوطنية، وتفعيل أدوات الضغط والمساءلة الدولية.

إجراءات لإطلاق سراح المعتقلين

ويري رئيس منظمة سام أن وقف الحرب الخطوة الأولى والأكثر إلحاحًا لضمان إطلاق سراح المعتقلين تعسفيًا، إذ إن استمرار النزاع يوفر غطاءً سياسيًا وأمنيًا لممارسة الاعتقال خارج إطار القانون، ويُعزز مناخ الإفلات من العقاب، ومع ذلك، يمكن اتخاذ عدد من الإجراءات العاجلة بالتوازي، مثل إدراج ملف المعتقلين ضمن أولويات أي مفاوضات سياسية، وتشكيل لجنة مستقلة برعاية أممية للإشراف على هذا الملف، إلى جانب الضغط الدولي على الأطراف للإفراج عن الفئات الأشد ضعفًا كالأطفال والنساء والمرضى، وفتح مراكز الاحتجاز أمام الرقابة الحقوقية.

وأضاف أن المجتمع الحقوقي يقوم  بدور محوري في هذه المرحلة، من خلال توثيق الانتهاكات، وإعداد ملفات قانونية، والترافع أمام الآليات الدولية، كما أن إطلاق سراح المعتقلين لا يكتمل دون الاعتراف الرسمي بالانتهاكات، وتقديم تعويضات عادلة للضحايا، وضمانات قانونية تحول دون تكرارها، وعليه، فإن الإفراج عن المعتقلين ينبغي أن يُنظر إليه ليس فقط كملف إنساني ملح، بل كجزء جوهري من مسار العدالة الانتقالية وبناء السلام في اليمن.

آليات وطنية لحل الأزمة 

من جانبها، قالت رنا غانم، عضو هيئة التشاور والمصالحة باليمن، إنها مع تعزيز الأدوات الوطنية لرصد وتوثيق الانتهاكات، فعلى الرغم من الإغراء الذي قد توحي به فكرة تشكيل آلية دولية مستقلة لرصد وتوثيق الانتهاكات، فإن التجارب السابقة أثبتت أن هذه الآليات ليست بمنأى عن التسييس، بل إنها في كثير من الأحيان تستنزف ميزانيات ضخمة تُحتسب كمساعدات للشعوب دون أن تعود عليها بالنفع المباشر.

وقالت في تصريحات لـ"جسور بوست"، إن بعض الأصوات الحقوقية ترى أن تعزيز الآليات الوطنية قد يكون أكثر جدوى، خاصة أن هناك تجارب قائمة بالفعل، كما هي الحال في اليمن مع اللجنة الوطنية للتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان، التي تمكنت من توثيق آلاف الانتهاكات وتكوين ملفات مكتملة بشأنها، إلا أن هذه اللجنة، مثلها مثل أي آلية دولية، تواجه عائقًا بالغ الخطورة، فمناطق سيطرة الحوثيين لا تزال محصنة أمام أي محاولات للرصد أو التوثيق، إذ تفرض الجماعة قيودًا صارمة تمنع وصول الجهات المعنية، سواء كانت محلية أو دولية.

وتابعت: لا تقف التحديات عند هذا الحد؛ فقلة الإمكانات تعرقل وجود راصدين ميدانيين في جميع المناطق اليمنية، ما يؤدي إلى تغطية جزئية لما يحدث على الأرض، أما التحدي الأعمق فيكمن في هشاشة الدولة نفسها. فرغم توفر عمليات التوثيق، فلا تزال مؤسسات العدالة عاجزة عن التحرك الفعلي تجاه تلك الانتهاكات، بسبب ضعف السلطة القضائية، واستمرار حالة الاضطراب السياسي والأمني.

أما عن الحلول الآنية لضمان سراح المعتقلين، فقالت: "إن استمرار نهج الحوثيين القائم على القمع والابتزاز لن يتوقف ما لم يتم كسر شوكتهم، فما نشهده اليوم من اعتقالات لا يقتصر على العاملين في المنظمات، بل يشمل أيضًا عددًا كبيرًا من المدنيين الذين لا علاقة لهم بأي نشاط سياسي أو إنساني، ويجري احتجازهم بشكل مزاجي وتحت ذرائع واهية بهدف فرض مزيد من السيطرة، وتحصيل الأموال، وإرهاب المجتمع".

وأضافت: "أمام هذا المشهد القاتم، لا بد من تحرك عاجل من قبل المجتمع الدولي والمنظمات الدولية، ويجب أن تتحمل هذه الجهات مسؤولياتها الأخلاقية والقانونية تجاه موظفيها، وتكثف ضغوطها على ميليشيا الحوثيين، سواء عبر القنوات السياسية أو عبر التحركات الميدانية والدبلوماسية المنسقة، لكن الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها أن القصف الجوي، التي تنتهجه الولايات المتحدة أخيرًا، لا يؤدي إلى تحرير المعتقلين، ولا يُضعف سلطة الحوثيين، بل على العكس، يزيد معاناة اليمنيين، ويدمر ما تبقى من البنية التحتية في بلد يعاني -أساسًا- هشاشة غير مسبوقة".



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية